السويداء تحت النار: الجنوب السوري بين انفجار الداخل وتدخّل الخارج

الملاحظ  نورة حكيم ( صحفية متدربة)

في مشهد يعكس تعقيدات المشهد السوري بعد سنوات من الحرب، تعود محافظة السويداء إلى واجهة الأحداث، لكن هذه المرة ليس كمتفرج على صراع الآخرين، بل كمركز لعاصفة تتقاطع فيها الحسابات المحلية، وتتشابك عندها مصالح الفاعلين الإقليميين، وعلى رأسهم إسرائيل.

اندلعت شرارة المواجهات الأخيرة مع تصاعد التوترات بين فصائل محلية درزية في السويداء ومجموعات قبلية بدوية، أدت إلى سقوط مئات القتلى والجرحى خلال أيام قليلة، بحسب مصادر ميدانية وتقارير حقوقية موثقة. لم تكن الاشتباكات مجرد خلاف عابر، بل جاءت في سياق سياسي وأمني أوسع، يشي بإعادة رسم ملامح السيطرة في الجنوب السوري.

تدخّل الجيش السوري الجديد وقوات الأمن العام، المحسوبة على السلطة الانتقالية، كشف عن استخدام أدوات قمعية شبيهة بتلك التي وُجهت للنظام السابق، من اقتحامات للأحياء إلى حالات تصفية ميدانية، فضلًا عن حملات انتهاك ممنهجة طالت المدنيين، بحسب ما أكدته مصادر محلية.

ورغم إعلان وزارة الدفاع الانتقالية عن هدنة مؤقتة، فإن الوقائع على الأرض تشي بأن وقف إطلاق النار هش وغير مضمون، في ظل غياب تسوية سياسية شاملة واستمرار التوتر داخل المدينة وحولها.

في موازاة الاشتباكات، تجري مفاوضات غير معلنة بين وجهاء من السويداء وممثلين عن السلطة الانتقالية في دمشق. المطلب الأساسي واضح: انسحاب كامل للعناصر المسلحة من الجيش والأمن العام من المحافظة، بما في ذلك النقاط المحيطة بمدينة السويداء. المفاوضون المحليون يرون أن عودة الأمن لن تتحقق عبر القوة، بل عبر احترام التوازنات الاجتماعية والمعطيات التاريخية للمنطقة.

لكن هذه الجهود تصطدم بواقع ميداني شديد التعقيد، فالفصائل المحلية لم تسلّم سلاحها، بل بادرت إلى تنفيذ هجمات مضادة ردًا على ما وصفته بـ”الانتهاكات الأمنية”، ما يعني أن منطق المواجهة لا يزال هو السائد.

وكأن كل ذلك لا يكفي، حتى دخلت إسرائيل على خط الاشتباك، ليس عبر التصريحات فقط، بل من خلال غارات جوية مباشرة استهدفت مواقع تابعة للأمن العام ووزارة الدفاع في السويداء. رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير الدفاع يوآف غالانت أعلنا بشكل واضح أن الجيش الإسرائيلي تلقى تعليمات بضرب أي تموضع عسكري قرب حدود الجولان، تحت ذريعة “منع تهديد محتمل”.

الرسالة الإسرائيلية واضحة: تل أبيب لن تسمح بتغيير ميزان القوى في الجنوب السوري بما يمس أمنها القومي. لكن الأهم هو أن هذه الضربات تحمل في طيّاتها إشارات تفاوضية غير مباشرة مع السلطة الانتقالية، ضمن لعبة إقليمية تتجاوز حدود السويداء.

تسري شائعات عن لقاءات جمعت مسؤولين أمنيين إسرائيليين مع أطراف سورية خلال زيارة الرئيس الانتقالي أحمد الشرع إلى أذربيجان في 12 يوليو، الأمر الذي فُسّر من قبل بعض المحللين على أنه ضوء أخضر إسرائيلي لشن حملة ضد الفصائل المحلية. ورغم أن هذا الطرح يبقى في دائرة التكهن، إلا أن التوقيت والنتائج الميدانية تعزز مثل هذه التأويلات.

غير أن هذه المقاربة تصطدم بسياسة إسرائيل المعلنة منذ سنوات، والتي تركز على منع تموضع أي قوات مزوّدة بأسلحة ثقيلة أو تابعة لتنظيمات متطرفة داخل نطاق 50 كيلومترًا من حدودها، دون الدخول في تحالفات مباشرة مع أي جهة سورية.

بين فوهات البنادق وهدير الطائرات، يبدو صوت السويداء مهددًا بالضياع. لكن ما زالت الفرصة سانحة — وإن ضئيلة — لحل سياسي يُعيد الاعتبار لأهالي الجنوب، ويمنع انزلاق البلاد نحو فوضى جديدة لا يملك أحد مفتاح الخروج منها.

السويداء اليوم ليست مجرد مدينة سورية… إنها مرآة لما تبقى من توازن هش في جغرافيا تنزلق نحو اللايقين.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

24 ساعة

Welcome Back!

Login to your account below

Retrieve your password

Please enter your username or email address to reset your password.

Add New Playlist