الملاحظ – نورة حكيم (صحفية متدربة)
في ظل الدينامية الرقمية التي تعرفها المملكة المغربية، والاستعدادات المكثفة لاحتضان فعاليات رياضية واقتصادية كبرى خلال الأشهر المقبلة، يواجه مشروع تعميم الأداء الإلكتروني عبر البطائق البنكية عقبات ميدانية، تتجلى في رفض العديد من المحلات التجارية والمطاعم والمقاهي التعامل بهذه الوسائل الحديثة، مفضلين الأداء نقدًا بدعوى “الجاهزية التقنية” أو “تكاليف الوسيط”، وسط شكوك متزايدة حول الخلفيات الضريبية لهذا السلوك التجاري.
وتكشف المعطيات الميدانية وشهادات المتضررين أن هذا الرفض المتكرر يحرم المواطنين من أحد حقوقهم الأساسية في اختيار وسيلة الأداء، ويُضعف جهود الدولة الرامية إلى تشجيع الشمول المالي وتقليص الاعتماد على “الكاش”، لا سيما في ظل ارتفاع نسبة تداول النقد بواقع 8% خلال السنة الماضية، بحسب ما أفاد به بنك المغرب.
جواد العسري، أستاذ المالية العامة بجامعة الحسن الثاني بالدار البيضاء، أوضح في تصريح له أن “الاعتماد الحصري على الأداء النقدي يمكّن العديد من المهنيين من التهرب الضريبي، حيث إن المعاملات المنجزة نقدًا لا تترك أثرًا محاسبيًا دقيقًا، ما يفتح المجال أمام التصريح غير الكامل برقم المعاملات الفعلي”.
وأضاف العسري أن مصالح المديرية العامة للضرائب تمتلك، بموجب المادة 5 من المدونة العامة للضرائب، الحق في الاطلاع والتحقيق في مدى توافق رقم المعاملات المصرح به مع ما يتم رصده من خلال المعاملات البنكية والبطائق المغناطيسية، إلا أن هذا الحق لا يُفعَّل بشكل كافٍ من طرف الجماعات الترابية.
وأشار إلى أن تمسك عدد من الفاعلين الاقتصاديين بالدفع النقدي ليس فقط بدافع التهرب من الضريبة، بل كذلك لرغبتهم في الحفاظ على السيولة بشكل مباشر خارج المنظومة البنكية، مما يُقلل من التزاماتهم الجبائية سواء على المستوى المحلي (كالرسوم الجماعية) أو الوطني.
من جانبه، أكد نور الدين حمانو، رئيس الجمعية المغربية لحماية المستهلك والدفاع عن حقوقه، أن جمعيات حماية المستهلك تلقت العديد من الشكايات من المواطنين بشأن رفض المحلات والمقاهي تمكينهم من الأداء عبر البطائق البنكية، دون تقديم مبررات قانونية أو تقنية مقنعة.
واعتبر حمانو أن “هذا السلوك يُعد خرقًا لحق من حقوق المستهلك، ويُناقض التوجه العام للمملكة نحو تعميم الشمول المالي وتعزيز التحول الرقمي”، مضيفًا أن كل مؤسسة تقدم خدمات للعموم مُطالبة قانونًا بأن تتيح للزبون اختيارات متعددة في الأداء، بما فيها الوسائل الإلكترونية.
ودعا المسؤول الجمعوي المهنيين إلى “تحمل مسؤوليتهم المواطِنة والانخراط في الرقمنة باعتبارها ورشًا وطنيًا لا محيد عنه”، كما ناشد الجهات المعنية بـ“اتخاذ إجراءات تحفيزية وتأطيرية لضمان حماية المستهلك في هذا المجال”.
من جهته، أقر نور الدين الحراق، رئيس الجامعة الوطنية لأرباب المقاهي والمطاعم، بوجود تخوف حقيقي لدى المهنيين من انعكاسات تفعيل الأداء الإلكتروني على واجباتهم الجبائية، مؤكداً أن “رقم المعاملات الناتج عن استخدام البطائق البنكية يمكن أن يشكل أساسًا مباشراً لاحتساب الضرائب، ما يثقل كاهل الفاعلين في القطاع الذين يعانون أصلاً من هشاشة مالية”.
وأوضح الحراق أن لقاءً جرى مع وزيرة الاقتصاد والمالية نبه خلاله المهنيون إلى ضرورة إيجاد حلول عادلة، خاصة أن عدداً من المقاهي تقدم منتوجات بأسعار محدودة تتراوح بين 8 و14 درهما، ما يجعل استخدام أجهزة الدفع الإلكتروني (TPE) غير مجدٍ اقتصادياً مقارنة بالمقاهي الفاخرة.
كما أعرب الحراق عن أمله في أن يسهم الحوار الجاري مع وزارة الداخلية بشأن القانون الإطار للجبايات المحلية في معالجة هذه الإشكالات، مؤكداً أن “الانخراط في ورش الرقمنة لن يكون فعالاً دون معالجة الإكراهات الجبائية والإدارية التي تعيق استخدام هذه الوسائل”.
يرى مراقبون أن تجاوز هذه الوضعية يتطلب تفعيل الإطار القانوني المنظم للأداءات المالية داخل السوق الوطنية، مع وضع آليات مراقبة صارمة لتطبيق القانون، وتحفيز المهنيين عبر تخفيض تكاليف أجهزة الدفع وتقديم إعفاءات مؤقتة أو تخفيفات ضريبية للمقاولات الصغيرة والمتوسطة المنخرطة في هذا الورش.
في المقابل، تشير تقارير رسمية إلى أن تنامي الاعتماد على “الكاش” يُشكل تهديداً للنظام الاقتصادي الوطني، حيث سبق لوالي بنك المغرب أن حذر من المخاطر المرتبطة بارتفاع تداول السيولة النقدية خارج المنظومة البنكية، داعياً إلى ضرورة تقنين العلاقات التجارية عبر وسائل رقمية أكثر شفافية واستدامة.
بين الإكراهات الجبائية التي تؤرق الفاعلين الاقتصاديين، ومطالب المستهلكين بحقهم في اختيار وسيلة الأداء، يجد التحول الرقمي في المغرب نفسه أمام تحديات واقعية تتطلب إصلاحات تشريعية وهيكلية عميقة. ويظل الرهان الأكبر اليوم هو ضمان توازن بين احترام الالتزامات الضريبية من جهة، وتكريس حقوق المستهلك ودعم مسار الرقمنة من جهة أخرى، لما فيه من مصلحة عامة تتجاوز المصالح الفئوية أو الحسابات الآنية.