محاكم الشرف في الصحافة والحرف

بقلم: يونس مجاهد
تعيش الصحافة المغربية تحديا، اصبح واضحا لكل المتابعين للشأن الإعلامي والثقافي والسياسي، يتمثل اساساً في الزحف المتواصل للتكنولوجيات الحديثة في التواصل، التي ليست كلها ايجابيات، بل حملت معها سلبيات كثيرة، اخطرها ظهور أشخاص وجدوا في الصحافة ملاذهم، لكن البعض عاث في هذه المهنة النبيلة فسادا، إما عن طريق التشهير والابتزاز، او عن طريق الإثارة الرخيصة، لشراء المتابعين. مثل هذه الممارسات ليست جديدة على هذه المهنة، كما أنها ليست غريبة على مهن أخرى، لذلك فقد انتظمت العديد منها في اتحادات وغرف وغيرها من الهياكل، التي تسمح لها بحد معين من التحصين، و خلق اجواء من الأخوة والتضامن بين مكوناتها، واعتماد قواعد اخلاقية يحتكم اليها كل من ينتمي للمهنة او للحرفة التي يمارسها.
ويتحدث عالم الاجتماع، إميل دوركايم، في كتابه ” في التقسيم الاجتماعي للعمل”، عن محاولة تغييب القاعدة الأخلاقية بمبرر الدفاع عن الحرية الفردية. يعتبر دوركايم ان هذا تبرير خاطئ، إذ لا يمكن افتعال تناقض بين القواعد المنظمة والحرية الفردية، على العكس، يقول، إن الحرية الفردية هي نتاج قواعد قانونية. وفي هذا السياق يستعرض تاريخ الاتحادات المهنية، منذ القدم، حيث انتظم التجار والحرفيون في اتحادات واصبحت هذه التنظيمات تقوم بوظائف ادارية، وتحولت إلى جزء من الخدمة العمومية. تطورت هذه الاتحادات إلى تنظيمات أقرب إلى العائلة، وكان لكل منها إلهها الحامي، ومقابرها الخاصة، تقدم إعانات لاعضائها، وتنظم احتفالات جماعية…
ويخلص دوركايم، إلى أنه بمجرد ان تتشكل مجموعة في المجتمع، تنشأ عنها حياة أخلاقية، إذ من المستحيل أن يعيش الأفراد معاً ويتعاملوا دون أن يشعروا بأنهم يشكلون كيانا موحدا من خلال اتحادهم، يهتمون بمصالحه ويأخذون ذلك بعين الاعتبار في سلوكهم. ومثل هذه التنظيمات ليست غريبة في تاريخ المغرب، حيث ان الحرف ظلت منظمة ولها قواعد مهنية واخلاقية، تسهر عليها ويتدخل لحمايتها أمناء الحرف.
وهذا ما حصل في مهنة الصحافة، حيث انه ما أن تطورت كمهنة وأصبحت جزءا من الحياة الاجتماعية والسياسية والثقافية، حتى خلقت تنظيماتها المهنية، وتبنت مواثيق أخلاقيّة، التي تحولت إلى ركن أساسي لممارسة الصحافة، بل عمادها الرئيسي. وضمن هذه الصيرورة احدثت المهنة في العديد من البلدان الديمقراطية ما يسمى بمحاكم الشرف، التي هي عبارة عن قضاء الزملاء، الذي يتم الاحتكام إليه عندما يحصل انتهاك للقواعد الأخلاقية للصحافة.
ويوجد حاليا في العالم، عشرات من مجالس أخلاقيات الصحافة، تصدر في كل أسبوع عددا من القرارات ضد مؤسسات صحافيّة وصحافيين، ويتم الامتثال لها، لأنها صادرة عن سلطة مهنية معنوية، هدفها التخليق وليس العقاب. ولا يعرف أبداً أن هناك من الذين طالتهم هذه القرارات، مؤسسات أو أفراداً، تمردوا على هيئات التنظيم الذاتي وتحاملوا على اعضائها ونشروا مراسلاتها ووزعوها بهدف البحث عن التعاطف او إرتداء عباءة المظلومية. بل على العكس، فإن القرارات الصادرة عن هذا الهيئات يتم التعامل معها بكل احترام، لأنها تأديب وتنبيه أخلاقي، اتخذته العائلة، كما وصفها دوركايم. كما أننا لم نسمع، في المغرب، عن تمرد محامين وقضاة وأطباء وصيادلة وغيرهم، لأن الهيئة ساءلتهم او اتخذت في حقهم قراراً.
وهو الأمر الذي يصح أيضا في الصحافة بالمغرب، حيث تمت مساءلة عشرات المؤسسات والأفراد، وتم اتخاذ عدد لا يستهان به من القرارات، من طرف التنظيم الذاتي، دون ان يثير ذلك أي احتجاج، باستثناء أقلية محسوبة على رؤوس الأصابع، لجأت إلى أسلوب المظلومية والتحامل على أعضاء هذا التنظيم، لأنها سقطت سهوا على هذّه العائلة.
من بين هؤلاء، صنف لا يمكن أن يغير أسلوبه، لأنه بكل بساطة يتعيش منه، و هو الموضوع الذي تناوله عالم اجتماع آخر، بيير بورديو، في محاضرة ألقاها عند افتتاح مركز الأبحاث بالمدرسة العليا للصحافة في مدينة ليل الفرنسية، سنة 1996. يقول بورديو إنه من الضروري أخذ الظروف الاجتماعية والاقتصادية، الإيجابية والسلبية، لممارسة الأخلاق، بعين الإعتبار، فإذا كنا نريد حقا تحقيق السلوكيات الأخلاقية التي ندعو إليها، علينا إلا نكتفي بالوعظ، بل علينا إرساء الظروف الاقتصادية والاجتماعية التي تضمن فعالية الخطاب الأخلاقي.
صحيح ما قاله بورديو، لكن هناك من يبحث عن تجاوز الهشاشة والخصاص بالعمل والمثابرة، وايضاً بالنضال النقابي، وهناك من فتحت له تكنولوجيات التواصل الحديثة، أبواب البحث عن عدد المشاهدات، التي يستجديها علانية، غير عابئ باي وازع اخلاقي، وهو ما يعتبره بورديو في كل ما كتبه عن الصحافة والإعلام، آفة حقيقية.