من يكتب التاريخ ( الجزء2)
بقلم : محمد كفيل*
إذا كان التاريخ هو دراسة وتوثيق الأحداث الماضية المتعلقة بالإنسانية، بما في ذلك التحليل والتفسير للظروف والأنماط التي أدت إلى تلك الأحداث، فإننا نراه محاولة لفهم الماضي وتأثيراته على الحاضر والمستقبل. وفقًا لهذا التعريف الأكاديمي، التاريخ هو سرد يعتمد على مصادر موثوقة وموضوعية لتحليل الأحداث.
ولكن، كما يقول نيتشه: “التاريخ لا يعني حفظ الماضي فقط، بل استخدامه لصالح الحاضر والمستقبل.” غير أنني أرى التاريخ بشكل مختلف. التاريخ بالنسبة لي مكتوب سلفًا، ليس فقط الماضي، بل أيضًا الحاضر والمستقبل. من يكتب التاريخ اليوم ليس مجرد مؤرخ يوثق الأحداث، بل هو صانع للسيناريوهات التي تحدد مصائر الشعوب والمجتمعات مسبقًا. إن المستقبل بالنسبة لهؤلاء الكتبة قد أصبح جزءًا من التاريخ الذي يتم إخراجه في الحاضر.
الإعلام: أداة لتوجيه الرأي العام
من بين الأدوات التي يعتمد عليها صناع التاريخ للتأثير على المجتمعات وتوجيهها، تأتي وسائل الإعلام. لم يعد الإعلام اليوم وسيلة لنقل الحقيقة أو مصدرًا موثوقًا للمعلومة؛ بل تحول إلى أداة لتوجيه الرأي العام عبر توظيف الكذب الممنهج. من يعتقد أن الإعلام يقدم الحقائق كما هي، فهو مخطئ. الإعلام الحديث يخدم أجندات محددة، ويُستخدم لتحقيق مصالح جهات خفية تتحكم في المحتوى وتحدد ما يجب أن يعرفه الجمهور وما يجب حجبه.
لفهم تأثير الإعلام بشكل عميق، لا بد من معرفة من يتحكم فيه. على سبيل المثال، روبرت مردوخ يمتلك إمبراطورية إعلامية تشمل فوكس نيوز في الولايات المتحدة وسكاي نيوز في المملكة المتحدة وأستراليا. أما شركة ديزني، فتسيطر على شبكة ABC وESPN، إضافة إلى امتلاكها استوديوهات كبرى مثل Marvel وPixar. هذه الشركات ليست فقط مؤسسات إعلامية؛ بل هي جزء من منظومة أكبر تهدف إلى التحكم في تدفق المعلومات وتشكيل الوعي العام.
وفي مجال التكنولوجيا والإعلام الرقمي، نجد أن شركات مثل جوجل وفيسبوك تؤدي دورًا محوريًا. جوجل، من خلال يوتيوب ومحرك البحث الخاص بها، تتحكم في ما يراه المستخدمون وما يبحثون عنه. في المقابل، فيسبوك، عبر منصات مثل إنستغرام وواتساب، تسيطر على طريقة التواصل الاجتماعي ونشر الأخبار، مما يجعلها أداة فعالة في صناعة الواقع الموجه.
دور الجزيرة في الخديعة الكبرى وتقاطع الأجندات
لعبت قناة الجزيرة دورًا بارزًا خلال الربيع العربي، حيث وفرت منصة للمتظاهرين وساهمت في تشكيل الرأي العام عبر تغطية الثورات في تونس، مصر، وليبيا. إلا أن هذا الدور لم يخلُ من الجدل. اتُّهمت القناة بأنها تخدم المصالح القطرية عبر إذكاء الصراعات، مما يجعلها المستفيد الأول من حقل الغاز المشترك مع إيران. لفهم دور الجزيرة، يكفي تتبع الأرقام المتعلقة بتجارة الغاز التي تمر بين قطر وإيران.
في سياق الهجوم الإسرائيلي على غزة، تروج الجزيرة لرواية انتصار المقاومة، وتُظهر مقاتلي حماس كأبطال يتصدون للعدوان. لكن الواقع أكثر تعقيدًا. ما يجري في غزة هو جريمة تدمير شاملة، تستهدف شعبًا بأكمله، فيما يبقى الإعلام المتابعين عالقين في وهم انتصار زائف.
تحت هذا الوهم، يروج لفكرة “عض الأصابع”، بينما الحقيقة هي تهشيم الجماجم وكسر العظام. ما يحدث في غزة لا ينفصل عن صفقة القرن، التي تهدف إلى إعادة تشكيل المنطقة سياسيًا واقتصاديًا. إسقاط الحديث عن هذه الصفقة من الإعلام ليس صدفة؛ بل هو جزء من مخطط أكبر.
الإعلام والواقع الزائف: لعبة التلاعب بالوعي
من بين أخطر الأساليب التي تعتمدها الجزيرة، هو ترويج فكرة زوال إسرائيل قريبًا. هذا الخطاب، رغم جاذبيته، يتجاهل المعطيات الحقيقية. فإسرائيل لن تزول بالمعطيات الحالية؛ فهي تمتلك العلم والتكنولوجيا والمعرفة والمال.
الانتصار في هذا العصر يتطلب أدوات القوة الحقيقية، وليس التمسك بالشعارات والعصى.
تصوير الشهيد السنوار وهو يواجه مسيرة إسرائيلية بعصاه ليس بمشهد يتطلب منا الزهو وكأنه انتصار ، بل فقدان للبوصلة. كان بإمكان إسرائيل إخفاء هذا المشهد، لكنها اختارت إظهاره للتأكيد على الهوة العميقة بين الواقع والشعارات. النهوض لا يتحقق بالعصى؛ بل عبر العلم والتكنولوجيا. الشعوب التي لا تحمل سوى العصى ستظل خاضعة، فيما تحتاج النهضة إلى أقلام وتقنيات متقدمة تعيد توجيه المسيرة نحو صدور أعداء البشرية .
السينما: نافذة على المستقبل وأداة للأجندات
بينما الإعلام يغرق في الأجندات الموجهة، تقدم السينما لمحات عن المستقبل. أفلام مثل : A Space Odyssey” و“Blade Runner”و“The Matrix”توقعت تقنيات ظهرت لاحقًا في حياتنا.
رغم أن السينما قد تُستخدم لتسويق أنماط استهلاكية، فإنها تكشف أحيانًا حقائق يتم إخفاؤها. الفرق بين الإعلام والسينما هو أن الإعلام يقدم روايات زائفة، بينما السينما تقدم تصورات واقعية للمستقبل.
مع ذلك، لا يمكن تجاهل أن المنصات العالمية مثل نتفليكس وأمازون برايم لا تعرض أفلامًا إلا إذا تضمنت مشاهد الشذوذ، في إطار أجندة واضحة تهدف إلى الترويج لقيم جديدة.
الأمر الأكثر إثارة هو أن ملاك السينما والإعلام هم تقريبًا نفس الأشخاص. الشركات الكبرى مثل ديزني، التي تتحكم في وسائل الإعلام، تسيطر أيضًا على السينما. هؤلاء يحددون ما يمكن للجمهور مشاهدته، وما يجب أن يظل مخفيًا.
ختاما أقول ان هناك قوى خفية تكتب التاريخ
فلا يمكن تفسير ما يحدث بأنه مجرد هيمنة اقتصادية أو سياسية. هناك قوى خفية استطاعت إبرام اتفاقات مع البشر، ووفرت لهم كل الوسائل لتحقيق السيطرة. لكن هدفها ليس البناء؛ بل هدم كل شيء.
ما نشهده هو تنفيذ لمخطط يسعى إلى إفساد العالم وتدمير القيم الإنسانية. هؤلاء الذين يكتبون التاريخ ليسوا سوى أدوات في يد هذه القوى، التي تعمل على إعادة تشكيل العالم وفق رؤية مظلمة مليئة بالفوضى والخراب.
*محامي