الملاحظ نورة حكيم (صحفية متدربة)
في خطوة دبلوماسية تحمل دلالات استراتيجية عميقة، أطلقت الإدارة الأمريكية تحركًا جديدًا على مستوى شمال إفريقيا، من خلال جولة رسمية يقودها مسعد بولس، مستشار الرئيس دونالد ترامب المكلف بالشؤون الإفريقية والشرق أوسطية. وتشمل الجولة تونس وليبيا والجزائر والمغرب، في مسعى لإعادة تشكيل المشهد الإقليمي ودفع عجلة الحل السياسي للنزاع حول الصحراء المغربية.
تأتي هذه الخطوة في وقت يشهد فيه الملف الصحراوي نوعًا من الجمود الأممي، وسط تغيرات جيوسياسية عميقة في المنطقة، وتزايد التحديات الأمنية، لا سيما في منطقة الساحل والصحراء. وتهدف المبادرة إلى إعادة تأطير السياسة الأمريكية في المنطقة، استنادًا إلى مقاربة أكثر واقعية وبراغماتية، تتجاوز الحلول التقليدية التي أثبتت محدوديتها على مدار عقود.
تسعى واشنطن من خلال هذه الجولة إلى الدفع بمسار سياسي جديد يرتكز على مبادرة الحكم الذاتي المغربية كحل واقعي للنزاع، مع الحفاظ على التوازنات الجيوسياسية الإقليمية. وتؤكد الإدارة الأمريكية، في هذا الصدد، على أهمية إشراك الجزائر في أي تسوية سياسية، لكن ضمن صيغة تفاوضية مرنة تحترم موقفها الرسمي الذي ينكر التورط المباشر.
ووفق مصادر مطلعة على مضمون المشاورات، فإن واشنطن ستعرض على الأطراف المغاربية مقترحًا بإعادة إطلاق المحادثات تحت مظلة الأمم المتحدة، مع إرساء إطار يكرّس الجزائر كشريك داعم للحل بدل طرف صِدامي، وهو ما قد يمهد لانخراط فعّال في العملية السياسية الأممية المتوقفة منذ فترة.
يبرز المغرب، وفق مراقبين، كأحد أكثر الأطراف تأهيلاً للتفاعل مع هذا التحرك الأمريكي، بفضل ما راكمه من مكاسب ميدانية ودبلوماسية، خاصة بعد الاعتراف الأمريكي بمغربية الصحراء في دجنبر 2020، وتوسيع شبكة الدعم الدولي لمقترح الحكم الذاتي باعتباره أساسًا واقعيًا للحل.
ويؤكد عبد الفتاح البلعمشي، أستاذ العلاقات الدولية ورئيس المركز الدولي للدبلوماسية الموازية، أن جولة مستشار الرئيس ترامب تأتي في لحظة مفصلية تعكس تحولًا استراتيجيًا في تموضع الولايات المتحدة في شمال وغرب إفريقيا، مبرزًا أن المغرب يتمتع بموقع محوري يُؤهله ليكون شريكًا استراتيجيًا للولايات المتحدة في أي صيغة جديدة لحل النزاع.
وأشار البلعمشي إلى أن هذا التحرك الأمريكي ليس معزولًا، بل يأتي ضمن تصور أوسع لإعادة رسم التحالفات الإقليمية وتوسيع الشراكات الثنائية، في وقت تتجه فيه واشنطن نحو تعزيز حضورها السياسي والاقتصادي في القارة الإفريقية لموازنة النفوذ المتصاعد لقوى دولية أخرى.
في المقابل، تبدو الجزائر مطالبة، أكثر من أي وقت مضى، بإعادة تموضعها الإقليمي بما يتماشى مع متغيرات المشهد الدولي، خاصة في ظل ما وصفه المحللون بـ”تراجع هامش المناورة السياسي”، نتيجة العزلة الإقليمية وتراجع الدعم الدولي لموقفها من قضية الصحراء.
ويعتبر سعيد بوشاكوك، الباحث المهتم بالتنمية والملفات الإقليمية، أن الوساطة الأمريكية قد تشكل فرصة تاريخية للنظام الجزائري من أجل الخروج من منطق المواجهة والدخول في مسار التهدئة، معتبراً أن رفض الانخراط في العملية السياسية الجديدة قد يزيد من الضغوط الدولية على الجزائر، ويُفقدها فرصًا ثمينة لتعزيز موقعها الاستراتيجي.
ويضيف بوشاكوك أن تصاعد الزخم الدبلوماسي حول مبادرة الحكم الذاتي يجعل منها الخيار الوحيد الواقعي ضمن أي مسار تفاوضي، مستبعدًا أن تقبل واشنطن أو المجتمع الدولي العودة إلى الطروحات التقليدية التي لم تنتج سوى مزيد من الاستنزاف الإقليمي.
تحرك مسعد بولس يُفسر أيضًا كجزء من استراتيجية أمريكية أشمل لإعادة التموضع في القارة الإفريقية، التي أصبحت ساحة تنافس مكشوف بين القوى الكبرى. فمع تصاعد النفوذ الصيني والروسي، تسعى واشنطن إلى إعادة تنشيط دورها السياسي والاقتصادي في شمال وغرب إفريقيا من خلال تقوية تحالفاتها مع دول مستقرة مثل المغرب، وإعادة بناء الثقة في أدوات الوساطة الأمريكية.
في خضم التوترات الإقليمية والتحولات الجيوستراتيجية، تعكس الجولة الحالية لمستشار الرئيس الأمريكي رغبة واضحة في تجاوز منطق إدارة الأزمة إلى منطق بناء الحلول. ويبدو أن واشنطن تراهن على واقعية المغرب، وعلى براغماتية مستقبلية محتملة من الجزائر، لصياغة مقاربة جديدة قد تعيد الروح لمسار التسوية الأممية المتعثر.
ومع تزايد إدراك الأطراف الدولية بأن الجمود لم يعد خيارًا قابلًا للاستمرار، فإن النجاح الأمريكي في فرض رؤية جديدة رهين بمدى استعداد الفاعلين المحليين للتخلي عن الصيغ التقليدية، والانخراط في مسار تفاوضي مسؤول يعكس الحقائق السياسية والاقتصادية على الأرض.