الملاحظ – متابعة
في مشهد يعكس قمة الازدواجية والانهيار الأخلاقي للمؤسسات الرياضية العالمية، تواصل الاتحاد الدولي لكرة القدم (فيفا) صمته المطبق إزاء مأساة تُعد من أفدح ما شهده القطاع الرياضي العالمي في العصر الحديث. فبينما تتعرض الرياضة الفلسطينية لعملية تطهير ممنهجة على يد آلة الحرب الإسرائيلية، تلوذ الفيفا بالصمت، دون أن تُصدر حتى مجرد إدانة لفظية.
منذ بدء العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة في أكتوبر 2023 وحتى يونيو 2025، وثّق الاتحاد الفلسطيني لكرة القدم استشهاد 785 رياضيًا وعاملًا في القطاع الرياضي، من بينهم 437 لاعب كرة قدم، إلى جانب مئات المصابين، وعدد غير قليل ممن أُصيبوا بإعاقات دائمة. ووفقًا للتقارير، توزعت هذه الحصيلة على عموم الأراضي الفلسطينية، مع تسجيل 15 شهيدًا فقط في الضفة الغربية، فيما كان النصيب الأكبر في غزة، التي تحوّلت إلى ساحة مفتوحة للقتل والدمار.
وفي تقرير حديث صدر عن اللجنة الأولمبية الفلسطينية بتاريخ 30 يونيو 2025، تم توثيق استشهاد 13 رياضيًا في شهر واحد فقط، من بينهم 8 في كرة القدم، و2 في الكرة الطائرة، و1 في كرة اليد، وآخر في رياضة المواي تاي.
منشآت رياضية تتحوّل إلى أهداف عسكرية
العدوان لم يقتصر على الأفراد، بل طال البنية التحتية الرياضية. فقد تم تدمير 288 منشأة رياضية كليًا أو جزئيًا، من بينها 21 منشأة في الضفة الغربية و267 في قطاع غزة، تشمل ملاعب وصالات تدريب ومدن رياضية. الأخطر من ذلك أن 12 ملعبًا رياضيًا مموّلًا من الفيفا بشكل مباشر تم تدميرها بالكامل، في انتهاك صارخ للقوانين الدولية ولأبسط مبادئ الحياد الرياضي.
ملعب اليرموك التاريخي، أحد أقدم وأهم الملاعب في غزة، تحوّل إلى مركز احتجاز تابع للاحتلال الإسرائيلي، بينما تم تحويل ملعبي فلسطين ومحمد الدرة إلى مراكز إيواء جماعية للنازحين الذين دمّرت منازلهم. وعلّق الناقد الرياضي الأمريكي جولز بويكوف على ذلك في مقال نشرته صحيفة Le Monde الفرنسية:
“إذا كانت الملاعب خطوطًا حمراء، فلماذا يصمت العالم حين تحوّل إسرائيل ملعب اليرموك إلى معسكر اعتقال؟”
ازدواجية المعايير: روسيا نموذجًا
هذا الصمت المريب من قبل الفيفا يُقابله أداء حازم وسريع في أزمات أخرى، كما حدث مع الحرب الروسية الأوكرانية عام 2022، حين قرر الاتحاد الدولي إقصاء روسيا من المسابقات، ومنعها من استخدام علمها ونشيدها الوطني، وأجبرها على اللعب تحت اسم “RFU” في ملاعب محايدة وبدون جماهير.
وفي هذا السياق، عبّر رئيس نادي شاختار دونيتسك الأوكراني، سيرهي بالكين، عن خيبة أمله في تصريح لصحيفة The Guardian في فبراير 2025:
“الفيفا لم تدعم الكرة الأوكرانية منذ بداية الحرب، لقد نسونا تمامًا. أبواب الفيفا مغلقة في وجوهنا دائمًا.”
إذا كانت روسيا تستحق الإقصاء بسبب الحرب، فلماذا تُستثنى إسرائيل، رغم التقارير الأممية والحقوقية التي توثق مجازر ممنهجة بحق الرياضيين والمنشآت الرياضية في فلسطين؟ أين مبدأ المساواة في المعايير؟
المجتمع الرياضي ينتفض
في مقابل صمت الفيفا، شهدت الساحة الرياضية الدولية تحركات لافتة، إذ أطلقت منظمة Athletes for Ceasefire نداءً عالميًا لوقف إطلاق النار في غزة، وقّعه آلاف الرياضيين الدوليين، وجاء فيه:
“نُدرك مسؤوليتنا الأخلاقية تجاه حماية أرواح المدنيين والرياضيين الفلسطينيين في ظل إبادة جماعية ممنهجة.”
من بين الموقعين، اللاعب الأمريكي السابق في دوري الـNBA طارق عبد الواحد، الذي صرّح:
“حين تقصف الأطفال والنساء بلا هوادة، فذلك لا يحتاج إلى تفسير. ما هو خطأ يبقى خطأ.”
مطالب واضحة للفيفا والمجتمع الدولي
الهيئات الرياضية الفلسطينية والدولية تطالب الفيفا بتحمل مسؤولياته الأخلاقية والقانونية، وتدعو إلى:
إصدار بيان رسمي يدين استهداف الرياضيين الفلسطينيين والمنشآت الرياضية.
تجميد عضوية إسرائيل في جميع المنافسات تحت مظلة الفيفا.
تشكيل لجنة تحقيق مستقلة تابعة للأمم المتحدة لرصد الانتهاكات بحق الرياضة الفلسطينية.
إنشاء صندوق دولي لإعادة تأهيل البنية التحتية الرياضية في فلسطين.
اعتماد آلية إنذار مبكر لمنع استغلال الرياضة سياسيًا أو دينيًا أو عرقيًا.
الفيفا: من راعية للرياضة إلى شريك في الصمت
لقد تجاوز صمت الفيفا حدود الحياد، وبات يُمثّل تواطؤًا صريحًا مع العدوان. إذ تحوّلت من منظمة رياضية عالمية إلى كيان خاضع لمعادلات القوة والنفوذ السياسي. وإن لم تتحرك اليوم، فإنها ستُسجل في التاريخ كطرف مشارك في واحدة من أبشع الجرائم بحق الرياضة والإنسانية في القرن الحادي والعشرين.
