صفاء فتحي – صحفية متدربة
تقع رواندا، أو كما تُعرف بـ”أرض الألف تل”، في قلب إفريقيا، وتمثل واحدة من أبرز قصص التحول الملهمة في العالم. على الرغم من الماضي المؤلم الذي شهدته خلال الإبادة الجماعية عام 1994، استطاعت رواندا أن تتجاوز جراحها، لتصبح نموذجًا عالميًا في المصالحة والتنمية. كيف تمكنت هذه الدولة الصغيرة من تحقيق هذا الإنجاز؟ وما الذي يميزها اليوم كوجهة اقتصادية وسياحية وثقافية؟
جراح الماضي
في عام 1994، شهدت رواندا واحدة من أسوأ الإبادات الجماعية في القرن العشرين، حيث قُتل أكثر من 800 ألف شخص خلال 100 يوم، إثر صراع عرقي بين التوتسي والهوتو. تركت الإبادة المجتمع الرواندي في حالة من الانقسام العميق، مع بنية تحتية مدمرة ونظام سياسي مفكك.
لكن عوضًا عن الغرق في الفوضى، واجه الروانديون ماضيهم بشجاعة. تم إنشاء محاكم “غاتشاتشا” المحلية، وهي نظام قضائي تقليدي يهدف إلى تحقيق العدالة التصالحية، ما ساهم في تخفيف التوترات وتحقيق المصالحة بين المجتمعات المتصارعة.
التحول السياسي
تعتبر السياسة في رواندا مثالًا على التحول والاستقرار في منطقة شرق إفريقيا. بعد فترة طويلة من الصراع الداخلي الذي انتهى بالإبادة الجماعية في عام 1994، تمكنت رواندا من بناء نظام سياسي قائم على الوحدة والمصالحة الوطنية. تحت قيادة الرئيس بول كاغامي، الذي تولى السلطة بعد الإبادة الجماعية، حققت رواندا تقدمًا كبيرًا في مختلف المجالات السياسية والاقتصادية.
اعتمدت الحكومة الرواندية سياسة “المصالحة الوطنية” التي تهدف إلى تعزيز الوحدة بين جميع فئات الشعب الرواندي بغض النظر عن انتماءاتهم العرقية أو السياسية. كما أن البلاد تعتمد على نظام سياسي تعددي، حيث توجد العديد من الأحزاب السياسية، ولكن حزب “الجبهة الوطنية الرواندية” الذي يقوده كاغامي يبقى القوة السياسية الرئيسية.
وعلى الرغم من الإصلاحات الديمقراطية التي جرت، فإن الحكومة تتعرض أحيانًا للانتقاد بسبب القيود على الحريات السياسية وحقوق الإنسان.
ومع ذلك، تظل رواندا نموذجًا مهمًا في مجال الاستقرار السياسي والتنمية في القارة الإفريقية.
طريق المصالحة وإعادة البناء
تحت قيادة الرئيس بول كاغامي، الذي تولى السلطة عام 2000، بدأت رواندا في تنفيذ خطة طموحة لإعادة بناء البلاد، ركزت من خلالها على مجموعة من النقط، أهمها، المصالحة الوطنية، حيث تم إنشاء محاكم “غاتشاتشا” التقليدية لمحاكمة المتورطين في الإبادة، مما ساهم في تحقيق العدالة والمصالحة بين أفراد المجتمع.
إضافة إلى تمكين المرأة، فرواندا تُعد الآن الدولة الأولى عالميًا من حيث نسبة النساء في البرلمان (61%).
والعمل على مكافحة الفساد، حيث تصنف رواندا حاليا كواحدة من أقل الدول فسادًا في إفريقيا.
نهوض اقتصادي مبهر
أصبحت رواندا اليوم واحدة من أسرع الاقتصادات نموًا في إفريقيا، مع معدل نمو يصل إلى 7% سنويًا.
وقد ركزت الحكومة الرواندية على تطوير مجموعة من القطاعات المهمة، أبرزها الزراعة، القطاع الذي يشكل حوالي 33% من الناتج المحلي الإجمالي، حيث تُعد رواندا مصدرًا رئيسيًا للبن والشاي عالي الجودة.
إضافة إلى قطاع الصناعة، فعلى الرغم من محدودية الموارد الطبيعية، شهدت رواندا تطورًا في الصناعات التحويلية والخفيفة، مع تركيز خاص على التكنولوجيا.
وأيضا الخدمات والتكنولوجيا، حيث تحولت العاصمة كيغالي إلى أبرز مركز إقليمي للابتكار في إفريقيا من خلال مبادرات مثل مشروع “مدينة كيغالي الذكية”.
كما جذبت رواندا استثمارات دولية بفضل سياساتها الاقتصادية المرنة وسهولة ممارسة الأعمال.
كما تلعب السياحة دورًا أساسيًا في اقتصاد رواندا، حيث تُعتبر وجهة فريدة لعشاق الطبيعة.
فرواندا تعد موطن 60% من الغوريلا الجبلية في العالم، والتي يمكن رؤيتها في “منتزه البراكين الوطني”، كما تتوفر على منتزه آخر “أكاجيرا الوطني” الذي يقدم تجربة سفاري استثنائية بفضل إعادة إدخال “الخمسة الكبار” (الأسد، الفهد، الفيل، الجاموس، ووحيد القرن).
َإضافة إلى توفر رواندا على واحدة من أجمل البحيرات الإفريقية “بحيرة كيفو “، التي توحي بأجواء هادئة ومثالية للسياح.
الثقافة والهوية الرواندية
على الرغم من المآسي التي مرت بها البلاد، حافظت رواندا على إرث ثقافي غني يعكس تاريخها وتقاليدها العريقة.
تعتبر الموسيقى والرقص جزءًا أساسيًا من الهوية الرواندية، حيث تُعبّر رقصات مثل “إنتوري” عن الفخر والانتصار.
كما تتميز النساء الروانديات بحرف يدوية فريدة، مثل صناعة السلال التقليدية المعروفة باسم “أغاتارا”، التي أصبحت رمزًا للسلام والوحدة.
بالإضافة إلى ذلك، يشتهر الزي التقليدي “إيميشانغو” في المناسبات الخاصة، ويعكس احترام الروانديين لجذورهم الثقافية وتقديرهم لتراثهم.
الصحة والتعليم
تمكنت رواندا من إحراز تقدم كبير في مجالي الصحة والتعليم.
ففي مجال الصحة، طورت البلاد نظامًا صحيًا فعّالًا يوفر تغطية شاملة لمعظم السكان، مما ساعد في تقليل معدلات وفيات الأطفال والأمهات بفضل برامج التلقيح الموسعة.
وقد أكدت رواندا مرة أخرى ريادتها في مجال الصحة العامة من خلال نجاحها في القضاء على وباء فيروس ماربورغ خلال 42 يومًا فقط دون تسجيل أي إصابات جديدة.
هذا الإنجاز يُضاف إلى سجلها الحافل بالنجاحات، حيث أظهرت البلاد قدرتها على مواجهة التحديات الصحية بكفاءة عالية.
ورغم أن الوباء، الذي ظهر لأول مرة يوم 27 سبتمبر 2024، أسفر عن تسجيل 66 حالة مؤكدة و15 وفاة، إلا أن رواندا، بفضل استراتيجياتها الصحية القوية واستجابتها السريعة، أثبتت مرة أخرى أنها نموذج يُحتذى به في إدارة الأزمات الصحية.
أما في مجال التعليم، فقد جعلت الحكومة التعليم إلزاميًا ومجانيًا في المدارس الابتدائية، مع التركيز بشكل خاص على تعليم الفتيات وتمكينهن.
كما اعتمدت رواندا اللغة الإنجليزية كلغة تعليم رسمية، مما عزز من فرص الاندماج العالمي وفتح آفاقًا جديدة للطلاب في مختلف المجالات.
دروس من رواندا
تُظهر قصة رواندا أن الإرادة الشعبية والقيادة الحكيمة يمكن أن تحول الكوارث إلى نجاحات. من دولة غارقة في الحروب والمآسي، إلى رمز للتنمية والازدهار في إفريقيا، ورسالة للعالم بأن التغيير ممكن حتى في أصعب الظروف.
رواندا اليوم ليست مجرد دولة صغيرة على الخارطة، بل هي قصة نجاح ملهمة يمكن للعالم أن يتعلم منها الكثير.